اتهامات التجسس تشعل المخاوف.. هل يواجه اليمن فصلاً جديداً من العزلة الإنسانية؟

أزمة الثقة بين الحوثيين والمنظمات الدولية

اتهامات التجسس تشعل المخاوف.. هل يواجه اليمن فصلاً جديداً من العزلة الإنسانية؟
موظفون أمميون في اليمن- أرشيف

أثار التصعيد غير المسبوق في لهجة زعيم ميليشيا الحوثيين في اليمن، عبدالملك الحوثي، ضد وكالات ومنظمات الأمم المتحدة، موجة واسعة من القلق داخل الأوساط الإنسانية والدبلوماسية، وسط تحذيرات من أن الاتهامات العلنية التي وجّهها للمنظمات الدولية بالمشاركة في "أنشطة تجسسية وعدوانية"، قد تفتح الباب أمام مزيد من القيود على العمل الإغاثي، وتزيد من عزلة اليمن في واحدة من أكثر لحظاته قسوة منذ اندلاع الحرب قبل أكثر من عقد.

في خطاب تلفزيوني، اتهم الحوثي منظمات تابعة للأمم المتحدة، من بينها برنامج الأغذية العالمي واليونيسيف، بالضلوع في عمليات تجسس ومساعدة أطراف معادية للجماعة، مدعيًا أن بعض موظفيها لعبوا دورًا في الغارة الإسرائيلية التي استهدفت اجتماع الحكومة التابعة للحوثيين في صنعاء أواخر أغسطس الماضي، والتي أسفرت عن مقتل رئيس الحكومة وعدد من الوزراء وفق وكالة رويترز.

ويزعم الحوثي أن جماعته تمتلك ما وصفها بـ"الأدلة القاطعة" على ضلوع "خلايا تجسسية" داخل المنظمات الإنسانية، قائلاً إن هذه الخلايا ساهمت في "رصد الاجتماع والإبلاغ عنه للعدو الإسرائيلي".

هذه التصريحات التي وُصفت بأنها الأخطر منذ سنوات، جاءت في وقت حرج يتسم بتدهور اقتصادي وإنساني حاد، ونقص غير مسبوق في التمويل الإغاثي، ما أثار مخاوف حقيقية من أن تؤدي إلى تعطيل أنشطة المساعدات التي يعتمد عليها نحو ثلثي سكان اليمن.

ردود فعل أممية ودولية

الأمم المتحدة سارعت إلى رفض الاتهامات الحوثية بشكل قاطع، مؤكدة أنها "مزاعم خطرة" لا تستند إلى دليل، وأنها تعرّض حياة العاملين في المجال الإنساني للخطر. وأوضح بيان صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن هذه الاتهامات "تضعف الثقة والتعاون الضروريين لضمان استمرار إيصال المساعدات إلى المحتاجين في جميع أنحاء اليمن".

وفي نيويورك، عبّر متحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة عن "قلق بالغ" من تصاعد الخطاب العدائي ضد منظمات الإغاثة في اليمن، مشيرًا إلى أن العاملين الإنسانيين "يعملون في ظروف صعبة للغاية، وتحت تهديد دائم".

من جانبه، حذّر برنامج الأغذية العالمي من أن استمرار العرقلة السياسية والاتهامات الموجهة إلى موظفيه قد يضطره إلى تقليص عملياته بشكل أكبر، خاصة في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين.

وقالت المتحدثة باسم البرنامج في بيان مقتضب إن "أي تهديد لأمن موظفينا أو تشكيك في نزاهتهم ينعكس مباشرة على ملايين اليمنيين الذين يعتمدون على المساعدات للبقاء على قيد الحياة".

تأثير في الميدان الإنساني

تصريحات الحوثي، وفق ما يؤكد عاملون في المجال الإغاثي داخل صنعاء، أحدثت حالة من الذعر بين الموظفين المحليين والدوليين، وأدت إلى تعليق بعض الأنشطة مؤقتًا لأسباب أمنية.

مدير منظمة إغاثية محلية قال إن "هناك مخاوف من أن تتحول هذه الاتهامات إلى حملة اعتقالات أو مضايقات جديدة تستهدف العاملين في المجال الإنساني"، مشيرًا إلى أن "عشرات المشاريع توقفت بالفعل منذ بداية العام بسبب نقص التمويل، وقد يتوقف المزيد إذا تدهورت العلاقات مع الأمم المتحدة".

كما أوضح مسؤول في مكتب التخطيط والتعاون الدولي بمحافظة مأرب أن "هذه الاتهامات تمثل خطوة خطرة نحو عزل اليمن عن المجتمع الدولي"، مؤكدًا أن "الميليشيا تحاول تبرير فشلها في إدارة المناطق التي تسيطر عليها من خلال خلق عدو خارجي جديد".

أزمة إنسانية مرشحة للتفاقم

بحسب بيانات الأمم المتحدة، يواجه أكثر من 17 مليون شخص في اليمن انعدامًا حادًا في الأمن الغذائي، في حين يعاني نحو 2.2 مليون طفل من سوء تغذية حاد، بينهم أكثر من نصف مليون مهددون بالموت في حال استمرار تراجع المساعدات.

ويعد اليمن أحد أكثر البلدان اعتمادًا على المساعدات الإنسانية في العالم، إذ تغطي برامج الأمم المتحدة أكثر من 80 في المئة من احتياجات السكان الأساسية. لكن النقص الحاد في التمويل خلال العامين الأخيرين أدى إلى تقليص الحصص الغذائية، ووقف العديد من البرامج التنموية.

وحذّرت منظمات إغاثة محلية ودولية قبل أيام من أن استمرار هذا الوضع قد يقود البلاد نحو مجاعة كبرى بحلول عام 2026، ما لم يُستأنف الدعم الدولي وتُرفع القيود المفروضة على حركة الإغاثة.

ميليشيا الحوثي والمنظمات الإنسانية

الخلاف بين ميليشيا الحوثيين والمنظمات الدولية ليس جديدًا، فقد شهدت السنوات الأخيرة سلسلة من المواجهات والقيود، ففي عام 2020، وثقت تقارير أممية قيام الجماعة بفرض ضرائب على المساعدات، ومصادرة شحنات غذائية، واحتجاز موظفين محليين بتهم واهية.

وفي فبراير 2021، أعلن برنامج الأغذية العالمي عن خفض مساعداته في المناطق الخاضعة للحوثيين بسبب ما وصفه بـ"العرقلة الممنهجة لعمليات التوزيع"، في حين حذّرت منظمات أخرى من أن القيود الإدارية والتهديدات الأمنية جعلت العمل الإنساني في اليمن "شبه مستحيل".

ويرى مراقبون أن تصاعد لهجة الحوثي الأخيرة يأتي ضمن محاولات للضغط السياسي على الأمم المتحدة والدول المانحة في وقت تواجه فيه الجماعة تراجعًا في الموارد المالية الداخلية، وتزايد الغضب الشعبي في مناطق سيطرتها نتيجة تدهور الأوضاع المعيشية.

تداعيات سياسية وإنسانية

تحذيرات خبراء القانون الدولي تشير إلى أن اتهامات الحوثيين قد تنطوي على انتهاك صارخ للاتفاقيات الدولية التي تحمي العمل الإنساني، وتنص اتفاقيات جنيف على ضرورة احترام حياد المنظمات الدولية، وعدم استخدام العاملين الإنسانيين كأدوات في النزاعات المسلحة.

ويرى محللون أن هذا التصعيد قد يعقّد مساعي الأمم المتحدة لاستئناف عملية السلام المتعثرة في اليمن، ويقوّض الثقة بين الطرفين في وقت تسعى فيه المنظمة إلى تثبيت الهدنة غير الرسمية السارية منذ عام 2022.

كما أن توتر العلاقات مع الأمم المتحدة قد ينعكس على برامج إعادة الإعمار وتمويل المساعدات، خصوصًا في ظل انخفاض المساهمات الدولية إلى أدنى مستوياتها منذ 2018.

اتهامات السياسة ومعاناة الإنسان

بينما تتبادل الأطراف الاتهامات، يظل اليمنيون هم الخاسر الأكبر، في أحياء صنعاء وتعز والحديدة وصعدة، يعيش الناس بين الخوف من القصف والجوع والمرض، في بلد باتت فيه المساعدات الإنسانية شريان الحياة الوحيد.

يقول أحد المتطوعين في العاصمة إن "الناس لا يهمهم من يتجسس على من، كل ما يريدونه هو لقمة طعام وأمان لأطفالهم".

ويضيف "حين تتوقف المساعدات بسبب خلافات سياسية، فإن الجوع لا ينتظر".

بدأ النزاع في اليمن عام 2014 عندما سيطرت جماعة الحوثي على العاصمة صنعاء وأطاحت بالحكومة المعترف بها دوليًا، ما دفع التحالف بقيادة السعودية إلى التدخل العسكري في مارس 2015 لدعم الحكومة الشرعية، ومنذ ذلك الحين، قُتل أكثر من 377 ألف شخص وفق تقديرات الأمم المتحدة، في حين دُمّرت البنية التحتية وتدهور الاقتصاد بشكل غير مسبوق.

وبالرغم من الهدنة الهشة التي أوقفت العمليات العسكرية الكبرى منذ عامين، فإن البلاد ما زالت غارقة في أزمات متشابكة، أبرزها الانقسام السياسي، وانهيار الخدمات، وغياب الأفق الدبلوماسي للحل.

في ظل هذا المشهد، يأتي تصعيد زعيم الحوثيين ضد الأمم المتحدة إشارة مقلقة على اتجاه أكثر عزلة وتوتر، قد يدفع اليمن نحو مرحلة جديدة من الانغلاق والمعاناة الإنسانية العميقة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية